فقاعة الديون خطر يداهم العالم بعد سنوات من الفائدة المنخفضة

صحيفة الاقتصادية السعودية

في أواخر عام 2017 أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا شهيرا عن أزمة الدين العالمي، وقدر التقرير حينها القيمة الإجمالية للدين العالمي بنحو 184 تريليون دولار، أي ما يعادل 225 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام ذاته.
وفي المتوسط، بلغ الدين الواجب سداده على كل شخص على كوكب الأرض 86 ألف دولار، أي ما يعادل مرتين ونصف المرة متوسط دخل كل فرد على وجه كوكبنا.
وفي شهر أيلول (سبتمبر) من العام المنصرم، أصدرت وكالة "بلومبيرج" تقريرا اقتصاديا شهيرا عن قيمة الدين العالمي، ليقفز الرقم النهائي بشأن إجمالي الديون إلى نحو 250 تريليون دولار.
ففي الدول المقدمة، قفز الدين الحكومي في غضون عشر سنوات وتحديدا منذ عام 2008 من 37 تريليون دولار إلى 67 تريليون دولار في 2018.
في المقابل، وبفضل التنظيمات المصرفية الصارمة التي أدخلتها البلدان المتقدمة على أنظمتها المصرفية، لتفادي تكرار أزمة 2008، زادت ديون المؤسسات المالية على مستوى العالم بنحو ثلاثة تريليونات دولار فقط، لتقفز من 58 تريليون دولار عند اندلاع الأزمة الاقتصادية إلى 61 تريليون دولار الآن.
وارتفعت القيمة الإجمالية لديون المؤسسات المالية التي تعتمد على الاقتراض لتيسير أنشطتها الاقتصادية، على مستوى العالم من 46 تريليون دولار إلى 74 تريليون دولار حاليا.
أما ديون الأسر فلم تتغير كنسبة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ولكنها كرقم مطلق زادت بنحو عشرة تريليونات دولار، إذ قفزت من 37 تريليون دولار إلى 47 تريليون دولار.
وبأي معيار اقتصادي، فإن الاقتصاد الدولي يواجه أرقاما غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية في مجال الديون، والعلاقة بين القيمة الإجمالية للقروض والقيمة الإجمالية للناتج المحلي العالمي تكشف أن البشرية تعيش بعيدا جدا عن إمكانيتها الحقيقية.
ولذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هو أنه إذا كان العالم عانى خلال السنوات العشر الماضية أزمة اقتصادية، فكيف يمكن تفسير هذا النمو المتسارع في إجمالي الدين العالمي من 178 تريليون دولار عام 2008 إلى 250 تريليون دولار في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي؟.
ويقول لـ "الاقتصادية"، الدكتور ليفي ديفيد أستاذ النظم البنكية في قسم التجارة بجامعة نيوكاسل، إن "جوهر المشكلة يكمن في معدلات الفائدة الدولية، فالنمو المتزايد للاقتراض دوليا، ومن ثم للقيمة الإجمالية للدين العالمي، تعود إلى سياسة التيسير الكمي وأسعار الفائدة التي ظلت لعشر سنوات تقريبا تقارب الصفر، ما شجع الشركات والمؤسسات غير المالية على تسريع وتيرة الاقتراض لاستغلال انخفاض الفائدة لتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي".
ووفقا لتلك الرؤية، فإن أسعار الفائدة المنخفضة لسنوات أسهمت في تراكم الدين العالمي، إلا أن المشكلة تكمن في أن الاقتصادات المدينة في العالم هي أيضا الأكثر ثراء، فالولايات المتحدة والصين واليابان ثلاثة دول يبلغ نصيبها النصف من الدين العالمي، متجاوزة بذلك حصتها من الناتج العالمي.
لكن الدكتورة كايت ديفليون أستاذة اقتصاد النقود والبنوك في جامعة ليدز تنظر إلى المشكلة من زاوية أخرى.
وتضيف أن "الدين العالمي لا يعد مشكلة في حد ذاته، لكنه يصبح مشكلة عند النظر إليه من زاوية معدلات الفائدة، وهنا الخطر الحقيقي الذي يواجه الاقتصاد الدولي حاليا نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة".
وتشرح الأمر لـ "الاقتصادية"، بمزيد من التفصيل، قائلة، إن "الفترة من 2008 إلى 2017 شهدت أسعار فائدة منخفضة للغاية، وهذا شجع كثيرا من الشركات الخاصة في الاقتصادات الناشئة تحديدا على الاتجاه إلى الأسواق العالمية للاقتراض، بالعملات الأجنبية خاصة الدولار، ويلاحظ أن إحدى تبعات الأزمة المالية العالمية، تمثلت في ارتفاع الديون الخاصة بالمؤسسات غير المالية في الاقتصادات الناشئة، وتحديدا الشركات التي تقوم بإنتاج السلع للاستهلاك المحلي أو التصدير للخارج، بل تجاوزت ديون تلك الشركات نظيرتها في الاقتصادات المتقدمة".
وهنا تكمن المشكلة التي يحذر كثير من الاقتصاديين منها في الوقت الحالي، فالارتفاع المتواصل في أسعار الفائدة، خاصة في الولايات المتحدة، يلقي بعبء متزايد على قدرات الشركات الخاصة في الاقتصادات الناشئة لسداد ما عليها من ديون، خاصة مع امتداد تداعيات الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على كثير من الاقتصادات الناشئة، التي باتت عاجزة عن الحفاظ على معدلات نموها التقليدية، ومن ثم تواجه تلك الشركات صعوبات حقيقية في سداد ما عليها من فوائد مالية.
ومع هذا، يظل البحث عن الآليات التي تربط بين ارتفاع معدلات الفائدة وإمكانية انفجار أزمة اقتصادية عالمية نتيجة الدين العالمي، جوهر الجهود الدولية الراهنة لتفادي تكرار الأزمة مجددا.
وفي الواقع، هناك عدد من السيناريوهات المطروحة في هذا المجال يختصرها لـ "الاقتصادية"، ترودي باربر الخبير المصرفي في مجموعة لويدز المصرفية، السيناريو الأول يتمثل في تراجع معدل نمو الاقتصاد الدولي، ومن ثم تسعى معظم الشركات حتى الحكومات لإعادة الهيكلة الاقتصادية، سواء عبر تقليص معدلات التوظيف أو خفض الأجور، والنتيجة في كلا الحالتين تقلص الطلب الكلي، ما يؤدي إلى إعلان كثير من الشركات سواء في الاقتصادات المتقدمة أو الناشئة عن عدم قدرتها على سداد ما عليها من ديون، ما سيسفر حتما عن إعلان كثير من المصارف لإفلاسها تباعا.
والسيناريو الثاني، الذي يجعل البعض يرجح أن الاقتصاد الدولي على أعتاب أزمة عالمية بسبب الديون والارتفاع المتواصل في أسعار الفائدة، يعود إلى أن عشرة أعوام من الفائدة المنخفضة، أسفرت عن تداخل البنوك المركزية في الأداء العضوي للاقتصاد والأسواق المالية، ما أوجد تشوهات واختلالات اقتصادية، وتمثلت تلك التشوهات في تنامي سوق العقار العالمي، ونظرا لأن جزءا كبيرا من طبيعة السوق العقارية الدولية تعتمد على الرهن العقاري، فإنه في فترات المد - وكما يقول ترودي باربر- سيبدو الجميع وكأنهم قادرون على السباحة دون مساعدة، ولكن عندما تأتي فترات الجزر وترتفع أسعار الفائدة، فتلك هي اللحظة التي سنعرف فيها من يمتلك القدرة على السباحة ومن سيغرق.
أما السيناريو الثالث، فهو أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى انفجار الاقتصاد العالمي نتيجة فقاعة الديون الدولية، ومع هذا الانفجار وعلى الرغم مما يحيط به من الألم، سيكون لدى الاقتصاد القدرة في نهاية المطاف على الخروج من إدمانه الراهن للديون.
إلا أن هذا السيناريو سيتركز تحديدا في الاقتصادات الناشئة، بينما ستظل قدرة الاقتصادات المتقدمة في التعامل مع الأزمة، أعلى بكثير من قدرة الاقتصادات الأخرى سوء ناشئة أو نامية نظرا لما تمتلكه تلك الاقتصادات من احتياطات نقدية ضخمة، يمكن إعادة ضخها في اقتصاداتها المحلية لتفادي الدخول في أزمة ركود.
وأيا ما كان السيناريو أو الآلية التي ستسفر عن انفجار أزمة دولية نتيجة الديون العالمية وارتفاع أسعار الفائدة، فإن من المؤكد الآن أن الأسواق الناشئة هي الأكثر عرضة لخطر الأزمة، لأن الدورة المالية بلغت ذروتها، وديونها الدولارية مرتفعة، والعجز في الحساب الجاري متزايد، واحتياطي العملات الأجنبية صغير، وغير قادر على التصدي للأزمة.
وربما تكون تركيا والأرجنتين نموذجان لأزمات مالية في الطريق، نتيجة الإفراط في الاقتراض لسنوات، بينما أخذت السياسات النقدية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى تلقي بثقلها على تلك الاقتصادات الناشئة لتدق ناقوس الخطر في قادم الأيام.

الوكيل الحصري في اليمن: شركة مسلم التجارية