الاقتصاد والسياسة ومظلة الأخلاق

ظهر الاقتصاد بشكله المعاصر على يد الأسكتلندى «آدم سميث» فى كتابهِ «ثروة الأمم» الصادر عام 1776، انطوى الكتاب على محددات- علمية وسياسية- فى الروئ الإنسانية للثروة، مفعمة فى مضمونها بالوازع الأخلاقى نحو خدمة الحكومة والفرد، اجتهد «سميث» فى عرض الكيفية التى يتحقق بها إثراء الفرد والحكومة على حد السواء، انبرى يربط بين السياسة والاقتصاد ويمزجهما بالفكرة الأخلاقية التى تتصوب ناحية العدالة فى سياق مبادئ الرأسمالية الوليدة- آنذاك- والرشيدة. صدر الكتاب فى الفترة السابقة على الثورة الفرنسية وثورات 1848 م، فكان لا بد أن تطال أفكار «سميث» نيران الثورة السياسية، والمتغيرات الأخلاقية التى استلهمها كارل ماركس فى «البيان الشيوعى»، ثم كتاب «رأس المال» إبان تذمر الجماهير على السياسة المتبوعة بالاقتصاد، وعثورهم على الشيوعية كنظرية أخلاقية/ سياسية/ اقتصادية بديلة. المؤكد أنّ هدم النظرية أو استبدالها بأخرى لا يأتى إلا من خلال النفاذ إلى عمق المنظور الأخلاقى لها، سواءً بإعادة تفسيره أو تعديله أو نفيه من الأساس، وهو ما انطبق على نظرية «سميث» التى كانت تعبر فى الأصل عن ثنائية إثراء الفرد والدولة على حد السواء، استنكرها الرعيل الأول من الشيوعيين، فظهرت نظرية اقتصادية سياسية بمفهوم أخلاقى مختلف تناوئ أفكار «سميث» وأتباعه الذين تم تصنيفهم سياسيًا واقتصاديًا «البرجوازيون».

انتفض مؤشر التاريخ يجرى سريعًا متصوّبًا ناحية التصادم بين القوى السياسية القديمة والجديدة، كلٌ حامل فوق كاهله نظرية اقتصادية مسيسة، الرأسماليون «دعه يعمل دعه يمر»، فيما كرس الشيوعيون لنداء «تأميم وسائل الإنتاج» ليتشكل مصير السياسة فى الفترة التالية بإزميل الاقتصاد والسياسة القائمة على المرجعيات الأخلاقية لكل من الرأسماليين والشيوعيين، وكانت النتيجة المنطقية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هى الحرب الباردة؛ صراع أيديولوجى حاد بين- الشيوعية والرأسمالية- الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية وريثة أوروبا القديمة المهزومة فى الحرب. انتهت الحرب الباردة؛ انتصر الأمريكيون، وجاء نخب النصر الأمريكى لصيقًا بفكرة الأخلاق التى قامت عليها الشيوعية ولا سواها. فهدمها- الأخلاق- هو هدم للسياسة والاقتصاد بضربة واحدة، ولو انتصر السوفييت لقاموا بالمثل، وهدموا النظرية الأخلاقية الأمريكية برمتها. ولا انفصال بين وشائج هذه الثلاثية (السياسة، الاقتصاد، الأخلاق) فى تاريخ المسيرة الإنسانية ما بين المستقبل والواقع المعاصر؛ نجد أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة؛ بينما الأخلاق هى شرعية صك تلك العملة، والشعار الذى ينادى به السياسيون والقادر على جذب الجماهير التى تنصف السياسة وتنتصر لها لكى تطبق طموحاتها الاقتصادية التى تخدم أغراضها، فلا يتحقق التمكين السياسى بدون تحقق اقتصادى، وتحت مظلة وفيرة من الظل الأخلاقى.