الغلاء والجشع .. قد يجتمعان وقد لا يجتمعان

في خضم موجة التضخم التي يشهدها العالم، يخلط بعض الناس بين التضخم والجشع. الممارسات الجشعية تصاحبها موجة تضخم وقد لا تصاحبها. وفي الحالة الأخيرة، تتركز المسألة في النهاية على ازدياد حصة طرف في السوق على حساب أطراف أخرى دون التأثير في المستوى العام للأسعار.

هنا مزيد توضيح. والبداية بفهم معاني المسميات.

الجشع يعني في اللغة الطمع والحرص الشديد. انظر مثلا "لسان العرب" و"مختار الصحاح". وتترتب عليه ممارسات ترفع السعر وقد لا تترتب. وقد تكون تلك الممارسات مسموحا بها نظاما وقد لا تكون.

أما كلمة تضخم فتعني من وجهة علم الاقتصاد وجود أسعار صاعدة للسلع والخدمات. أي أن التضخم يعبر عن الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار، أو بعبارة مكافئة، الانخفاض المستمر في قيمة النقود، وهذا يعني وجود غلاء عام. ويعبر إحصائيا عن التضخم بأنه معدل الزيادة في الأسعار خلال فترة زمنية محددة، كالشهر والعام.

امتلاك النفوذ في السوق من قبل أحدهم أو التواطؤ بين مجموعة تجار للتحكم في السوق قد يكون جانب السعر أو الكميات "يصعب جدا التحكم في الاثنين" فوق السعر أو الكمية دون وجود تحكم أو تواطؤ. والسعر التنافسي في الاقتصاد الجزئي له تفاصيل المقام لا يتيح الدخول فيها.

مكافحة التواطؤات والتكتلات والاحتكارات "بالمعنى الشائع الآن وليس الفقهي" غير الطبيعية تدخل ضمن أعمال الحكومة في تنظيم الأنشطة ذات الطبيعة التجارية. وتدخل الحكومة لتنظيم الأنشطة التجارية يأتي في أطر منع استخدام النفوذ لتعطيل قوة السوق، كما تأتي في أطر تصحيح التشوهات التي تصيب السوق، وليس في أطر إجبار الناس على البيع بغير رضاهم. خلاف الاحتكار الفردي أو احتكار القلة "أي تكتل أو تواطؤ القلة"، هناك مصادر أخرى لتشوهات السوق وأهمها وجود صعوبات في الحصول على المعلومات أو الاستفادة منها.

من قصص التواطؤ المشهورة تآمر مديري شركات أدوات كهربائية كبرى أمريكية مطلع الستينيات من القرن الميلادي الماضي، على رفع الأسعار السائدة، وقاموا بتعمية خطواتهم بأعمال تشبه أعمال الجاسوسية. حكم على هذه الشركات بدفع تعويضات للمستهلكين المتضررين من رفع الأسعار، خلاف أحكام أخرى ذات طابع جنائي ضد المتورطين.

طور عديد من الدول مجموعة واسعة جدا من التشريعات التي يعمل تطبيقها على حماية المستهلكين، وتصحيح تشوهات السوق، ومكافحة الممارسات المعطلة لقواها. وتناولت هذه التشريعات حتى حالات خفض السعر دون التكلفة، ويحدث هذا غالبا من الشركات الكبرى بهدف الإضرار بالمنشآت الأصغر المنافسة للخروج من السوق. تسمى هذه القوانين أحيانا قوانين مكافحة الاحتكار، من باب الخاص الذي يراد به العام، وأصبحت هذه القوانين كثيرة ومتشعبة.

عيوب في مكافحة الاحتكار؟

مع ذلك، فإن مكافحة الاحتكار ليست مرغوبة دائما. هناك أنشطة يرغب في كونها احتكارية، ويطلق على هذا النوع من الاحتكار في كتب الاقتصاد، الاحتكار الطبيعي natural monopoly. هذا الاحتكار يتميز إما بانخفاض تكلفة إنتاج الوحدة الواحدة عند إسناد الإنتاج إلى منشأة واحدة بدلا من منشآت عدة، كما هو الحال في احتكار توفير الكهرباء والماء، وإما بكون طبيعة إنتاج عدد من المنتجات تجعل إنتاجها عن طريق منشأة واحدة أكثر كفاءة من إنتاجها بوساطة منشآت عدة، مثل خدمات النقل العام في إطار عمراني محدد. وهناك سلع بين بين.

وهناك عبارات شائعة في وسائل الإعلام ونحوها مثل "الأسعار غير معقولة". هذه العبارة ونحوها أقرب إلى أن تكون عبارات مجملة.

وفي هذا أشير إلى أن وجود مجموعة كبيرة من أدوات التحليل العلمي الاقتصادي القابلة لأن يعبر عنها باستخدام الرياضيات، التي تساعد على فهم موضوعي حيادي لتركيب وسلوك الأسواق والإنتاج وتحدد الأسعار وحركة العرض والطلب عامة.

الحكم على الأسعار بأنها غير معقولة قد يكون مبررا، وقد يكون نسبيا، ذا ارتباط بمستوى غنى وفقر الناس "وبقوة الحاجة إليها"، ولذا فإن الأمر بحاجة إلى معايير يستند إليها. لنأخذ المثال التالي. لو قال قائل من مواطني دولة متوسط دخل الفرد فيها منخفض مقارنة بغالب الدول، "أغلب الناس في بلدي لا يقدرون على تملك سيارة، نظرا إلى أن أسعار السيارات غير معقولة". ما مدى منطقية حكمه بأن أسعار السيارات في بلده غير معقولة؟

قد يحدث أن ترتفع الأسعار ارتفاعا كبيرا في إطار تلاعب، وقد يحدث لأسباب أخرى. وقد عبر الإمام ابن تيمية -رحمه الله- عن ذلك في كتابه الحسبة بعبارات تتناسب مع الفهم السائد آنذاك لعمل قوى السوق، "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق".

وفي هذا أشير إلى كلمة «الاقتصادية» في عدد يوم الجمعة الماضي، بعنوان "السيارات وأسعارها منافسة أم احتكار". وهي كلمة تشير إلى سوء فهم كثيرين. سوق وكالات السيارات لا تصلح فيها المنافسة. لأن عقد الوكالة مع مصنع السيارة يرتب أعباء على الوكيل، لا يمكن تحملها في سوق تنافسية للوكالات. لكن هذا لا يعني طبعا ترك الحبل على الغارب. وهو ما شرحته كلمة «الاقتصادية».

من المؤكد أن الدول تعاني نقصا وضعفا في التنظيمات الحكومية الرامية إلى منع الممارسات غير المشروعة. وهناك نقص كمي ونوعي في الموارد البشرية المسؤولة عن عمل هذه التنظيمات، أو مراقبة تطبيقها، خلاف النقص الكمي والنوعي في الموارد البشرية القضائية.

وإذا كان جزء من ارتفاع الأسعار مبررا، وجزء منه غير مبرر، فإن من المهم وجود معايير وقياسات موضوعية للتعرف على المبرر وغير المبرر. وتدريب موارد بشرية عليها.

 ●المصدر: عن موقع صحيفة الإقتصادية السعودية●